{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}
إن كنت في مسجد، أو وحدك في صحراء، وأردت الصلاة، فمن سنة محمد بن عبدالله أن ترفع الأذان بالصلاة.
إن كنت في جيش من الجيوش وتريد أن تغير على بلدة من البلاد لتفتحها، فرض عليك دين محمد أن تنتظرت هل يرفعون الأذان لإداء الصلاة؟ فإذا وجدت قد أذنوا، عندها تتغي المواقف، وعليك أن تستدير بجيشك عنهم إذ حرم عليك قتالهم لأنهم مثلك مسلمون فلا يجوز لمسلم الإعتداء على إحد إلا بمثل ما اعتدى عليه أو يعفو عنه، بهذا جاء دين محمد بن عبدالله.
الأذان الذي له هذه القيمة والأهمية، يتكون من ألفاظ تدل على التكبير، والشهادين، والنداء إلى الصلاة، والنداء إلى الفلاح.
الشهادتان هما: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
بغير الشهادتين لا يصح لأحد إسلام.
كل نبي من الأنبياء يبعث إلى قومه يدعوهم إلى لا إله إلا الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله واتبعوا نبيهم، فإنهم بذلك يصيرون مسلمين.
لما ماتت الأنبياء ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم في زمان ليس فيه نبي، اللهم إلا عيسى الذي بشر قبل أن يرفعه الله إليه بمجيء محمد، ثم سيؤذن بنزول عيسى آخر الزمان ليتبع محمد صلى الله عليه وسلم.
فلا يصح إسلام أحد ولا يقبل منه الإسلام إلا إذا نطق بالشهادتين بلسانه للقادر على النطق أما العاجز عن النطق فيقبل منه ما يفهم إقراره بنبوة محمد.
هذا الذي ذكرته من وجوب نطق الشهادتين لمن أراد الدخول في الإسلام، ونطق اسم الله مقرونا به اسم النبي في الشهادين، هو أحد وجوه تفسير آية في القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، هي قوله تعالى {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، أفاد المفسرون أن هذه الآية، هي منة من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم أن رفع له ذكره.
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسير الآية: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أي: أعلينا قدرك، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في الدخول في الإسلام، وفي الأذان، والإقامة، والخطب … ، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا أسأل علماء أهل الكتاب، هل يوجد عندهم شيء يبين أنه لا يصح إيمان أحد اليهود والنصارى إلا إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن موسى أوعيسى رسول الله، أو ورد ذلك عن أحد من الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم؟
هل ورد عن أحد من الأنبياء من لدن نوح عليه السلام إلى عيسى أنه لا يصح إسلام أحد أتباعه إلا إذا قال: أشهد أن لا إله الله، وأن نوح رسول الله، مثلا، أو هود أو إبراهيم، أو صالح أو إسحاق أو يعقوب أو غيرهم؟
هل أعطي أحد من الأنبياء كما أعطي محمد رسول الله، بحيث أنه إذا قام هذا النبي يتعبد والمؤمنون معه لربهم، لابد من أن يشهدوا لله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة بين يدى صلاتهم حين ينادون بالأذان والإقامة، من ذا الذي حاز هذا الشرف في البشرية كلها من الأنبياء أو من غيرهم ممن ملكوا الأرض بالحب أو بالقهر.
من الأنبياء الذين لاقوا محبة الناس إبراهيم عليه السلام حتى اختصمت فيه اليهود والنصارى، فكل يدعي أن ابراهيم منهم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعد إبراهيم، ومع هذا فإن إبراهيم عليه السلام لم يعط هذا الأمر مع أنه أبو الأنبياء وأسبق زمانا في البعث بالرسالة من نبينا بل هو جد محمد بن عبدالله صلوات الله عليهم جميعا.
نوح عليه السلام أبو البشرية الثاني، بعد الطوفان قطع الله النسل من المؤمنين إلا منه، فنبتت البشرية مرة ثانية من صلب نوح عليه السلام، ومع هذا الشرف لم يعطى هذا الأمر.
الناس تذكر الأنبياء يذكرون نوحا وإبراهيم وإدريس وإسحاق وإسمعيل وموسى وعيسى وغيرهم، ولكن ليس كذكرهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، ففي الليل والنهار في مشارق الأرض ومغاربها، على المآذن وفي البيوت، وفي أي مكان حيث يتواجد الإسلام، يتواجد إقران شهادة التوحيد مع شهادة الرسالة، فيذكر اسم الله ويذكر إسم محمد، هذا الشيء الذي لم يعطاه أي نبي مهما علا قدره عند الله تعالى.
سادة الأمم وقادة العالم، الذين يذكرهم التاريخ، كذي القرنين وغيره من أهل الصلاح، هل بعد إنقضاء دولهم وكر الليل والنهار على ملكهم وإمبراطورياتهم، وتباعد أزمانهم هل يذكرون إلا لدي بعض المثقفين من الناس في مجلس جمعهم، أو عند تصفح أحدهم لكتاب، أو عبر خاطرة عبرت بفكر أحاد الناس.
القاهرون والغاشمون والظالمون، الذين ملأوا التاريخ وسقوا الناس كاسات الذل، وأشبعوهم من المرار، كلينين، وهتلر، وكسرى وقيصر، ونيرون، وكاليغولا، وفلاد الثالث، وستالين … هل يذكر اليوم بوش الذي كان بالأمس ملء السمع وغيره؟، على اختلاف البقاع والزمان، من لدن ابن آدم القاتل حتى هذا الزمان، هل يذكر أحد بالحمد على ما في نفسه من الخير وعلى ما في أفعاله من الرحمة والرأفة والبر كما يذكر نبي الإسلام؟
أم يذكر بعضهم بالملامة وبعضهم يذكر باللعنات؟
الفلاسفة والمصلحون والمنظرون، الذين انتشرت أفكارهم ومبادئهم في بقعة من بقاع الأرض أو عبر دهر من دهور الزمان، هل بقي لها الخلود فيذكرون مع إشراقة كل شمس إلى إشراقتها في الغد على طول الزمان كما يذكر اسم محمد بن عبدالله في البراري والبحار وفي جو السماء، يلهج الناس بحمده وذكره والصلاة عليه في الأرض وإلى السماء تصعد عباداتهم مكللة بالصلاة عليه؟
إنك إن تأملت العلوم على تنوعها والثقافات على إختلاف بلاد نشأتها، لا تجدها تذكر مقرونة مع أسماء أصحابها كما يذكر اسم محمد رسول الله، طول الليل والنهار في شرق الأرض وغربها.
هنا كاتب يصلي على محمد رسول الله كلما كتب اسمه، وهذا قاريء يصلى على محمد رسول الله كلما قرأ اسمه، وهناك مؤذن على المآذن ينادي للصلاة يذكر محمدا، وآخر على المنبر يخطب ويصلي عليه، في الصين يصلون الفجر، في مصر يصلون الظهر، في استراليا يصلون فريضة أخرى وفي أمريكا أيضا يذكرون إسمه، فهل حاز أحد في الخليقة مثل هذا الفضل والشرف أن يقرن إسمه مع اسم الخالق سبحانه وتعالى، فلا يذكر اسم الله إلا قرن معه اسم محمد كما في (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) أو كما يقال (صلى الله عليه وسلم) فالضمير في (عليه) يعود على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو كان رفع ذكر النبي في زمانه فقط، لقلنا رجل قائد، فالناس يتزلفون إليه بذكر اسمه في النداء عند الصلاة التي شرعها لهم، كما هو المعهود في تاريخ الجبابرة الذين شرعوا لأممهم نظما للعبادة يعبدونهم بها، ولكنه أي محمد بن عبدالله ما دعا الناس لعبادته، بل دعاهم لعبادة الله وحده خالقهم، وأبي أن يقول أحدهم شاء الله وشاء محمد، وعلمهم أن ما لله فهو لله لا يكون معه شريكا.
والآن نتسائل ما الدافع لبقاء إسمه يرفع على المآذن بعد موته وموت أصحابه بأربعة عشر قرنا من الزمان؟ ومعروف أن كل الدول تفني بفناء قادتها وضعف أتباعهم، وظهور الأقوى.
هل لأنه قائد؟ كم في التاريخ من قادة كانوا ملء السمع والبصر، وسارت بذكرهم الركبان، ثم صار نسيا منسيا، بل ذي القرنين نفسه، الذي كان يعرفه ويسمع عنه القاصى والداني على كوكب الأرض، فلقد طاف الأرض بقوته وعدله، وسلطه الله على أعظم وأغشم قوة في الأرض يأجوج ومأجوج فمنعهم من الإفساد في الأرض بأن حبسهم خلف السد، وظل فضل حبسه لهم دائم حتى اليوم، مع هذا ما كان يعلم عنه أحد زمان نزول الوحي على محمد إلا بعض علماء أهل الكتاب، ولولا أنهم قالوا لمشركي مكة إسألوه أي محمد عن رجل طواف، ليستدلوا بجوابه على نبوته إذا أجابهم، لأنه لا يعلم عن هذا الرجل الطواف أحد غير علماء أهل الكتاب، ومن ثم فمن كان يعلم عنه شيء غيرهم فلا يكون إلا من باب السماء علم، ومن ثم فهو نبي.
فلما أجابهم كفروا به، أقول لولا أن القرآن أنزل بذكر ذي القرنين، لما كان أحد من الناس يعلم عن ذي القرنين شيئا، شأنه شأن الكثيرين من القادة عبر التاريخ، فأين ذكره بالنسبة لذكر النبي الذي يملأ ذكره الآن أرجاء الكرة الأرضية.
ومثل الكلام نقوله، في حق المصلحين لو كان محمد بن عبدالله مجرد مصلح، ونقوله في حق السياسين لو كان محمد بن عبدالله سياسيا من الساسة عبر التاريخ، ونقوله في حق أي طائفة من أصحاب العلوم البشرية والتيارات الفكرية التي هي من صنع البشر.
إن ما جاء به محمد بن عبدالله شيء لم يأته من بشر، وليس كعلوم البشر.
ثم نتسائل ما الذي يجعل محمد بن عبدالله، يقول هذه الآية هكذا (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) مطلقة غير مقيدة بزمان؟ لتشمل أنواع الزمان الثلاث الماضى والحاضر والمستقبل.
أما الماضي، فنحن المسلمون مما نؤمن به أن الله رفع ذكره عند الأنبياء السابقين حين أخذ منهم الميثاق، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]
فكل نبي أخذ منه الميثاق أنه أذا جاء الرسول الموصوف عندهم فعليه وأتباعه أن يؤمنوا به وأن ينصرونه، نحن نعرف ذلك وعلماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، يعرفون ذلك لكنهم يكتمون الحق عن أتباعهم ليبوئوا بإثمهم وإثم أتباعهم حين تفني الدنيا ويفني بطش المتجبرين ويلقون الله القوي المتين فينتقم منهم على غشهم أتباعهم بكتمان الحق عنهم.
هل تعرفون كم نبي أخذ الله الميثاق منهم، 124000 نبي ورسول، كلهم أخذ الله الميثاق منهم أن يؤمنوا به متى جاء.
فهذا من رفع ذكره في الماضي، وأما في زمانه، فهو قد رأى رفع ذكره وشاهده بنفسه، لكن العجب أن تأتي الآية بصيغة الماضى ليمتد المعنى الوارد فيها ليشمل زمان المضارع والمستقبل، و يستمر رفع ذكره مع الليل والنهار كالفلك السابح مع الشمس والقمر، فلا ينقطع ذكره، ويتعدى زمانه إلى زماننا الذي أتي بعد وفاته، فمن أخبره بهذه الحقيقة وهي رفع ذكره واستمراريته مع الزمان بعد موته فلا ينقطع كما يحدث مع غيره من البشر؟
أيصح أن ينال محمد بن عبدالله شرفا لم ينله الأنبياء أو غيرهم عبر التاريخ ولا يكون نبيا؟ وهل من شرف غير شرف النبوة حازه ليرقى به هذا المرتقى؟ ..