الإخبار بانتصار الروم
قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، كان العالم تتنازعه قوتان عظيمتان، الروم وتتبع دينا سماويا جرت عليه سنة التبديل والتحريف لكن لديها بقايا من هذا الدين، ولهذا فهي خير القوتين والقوة الأخرى قوة الفرس التي تتبع دينا وضعيا يقوم على عبادة مخلوق من خلق الله هو النار.
في ذلك الزمان كانت في المهد قوة وليدة، بدأت تباشير ظهورها على ظهر الأرض، هي قوة المسلمين دينها دين سماوى غض يتنزل به جبريل أمين الوحي من السماء على خير الأنبياء محمد ليترجم واقعا عمليا على يدي هذا النبي الطيب المبارك ومن معه من المؤمنين، تلك الفئة التي لا تجد لها على وجه الأرض من يشاركها سماوية الدين غير الروم الذين يتبعون بقايا الشريعة المنزلة على موسى عليه السلام بعدما جرى قلم التحريف فيها، فلم تعد صالحة لقيام مجد أمة، وكيف تقوم مجد أمة على شريعة محرفة وعقائد منحرفة تغالط الفطرة وتصارعها. فالأديان جاءت لسعادة للبشر لا لإحداث صراع بينهم وبين فطرهم، لذا جاء دين الإسلام دينا فطريا ينسجم مع فطرة البشر.
اقتتلت الفرس والروم فكانت الغلبة للفرس ففرح المشركون الذين يعيشون مع الفئة المؤمنة التي يتنزل عليها الوحي من السماء، استبشر كفار مكة ومشركوها بانتصار أمثالهم الكفار على أتباع النصرانية، وقالوا في أنفسهم لو كانت النصرانية حقا، لما ترك ربها رجالا لا يدينون بدينه يغلبون اهل دينه، وبالقياس استبشروا أنهم وهم أهل شرك وكفر سيغلبون المسلمين الذين يعبدون الإله الذي في السماء والذي عبدته الروم قبل محمد ومن معه، لكنهم أخطأوا التقدير فشتان بين دين غض ودين جرى فيه قلم التحريف، فجعل الله ثلاثة.
وكانت الفئة المؤمنة ترجو أن ينصر الله الروم مع تبدليهم لدينهم على من يعبدون النار، فهم وإن كانوا بدلوا دينهم فهم في النهاية يعبدون الله وإن كانوا أخطأوا معرفته وأخطأوا طريق رضاه.
في هذا الزمان كان الوحي يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل جبريل بآيات تبشر المسلمين بنصر الروم على الفرس، في وقت ما كان أحد يصدق ذلك، فلقد كان البيزنطيون بقيادة هرقل لا يأخذون بأسباب النصر الكونية، حيث انتشار الفساد فيما بينهم على مستوى الفرد والجماعة.
ولكن الله يعلم ما لا يعلم خلقه فنزلت آيات من القرآن تبشر بتغير خريطة القوي في المنطقة المحيطة بمولد الدين الجديد، قال تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)} [الروم: 1 – 6]
وهنا استبشر المؤمنون بهذه الآيات المنزلة من رب الأرض والسماء، وكيف لا يستبشرون وهم أحسن الناس ظنا بالله، وأصدقهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، كيف لا يستبشرون ومن أهم صفاتهم الإيمان بالغيب، فآمن المؤمنون بهذه الحقيقة المنزلة كما آمنوا من قبل بالنبي الذي أنزل عليه القرآن.
فانطلق أبو بكر رضى الله عنه يتلو الآيات بهذه البشرى.
وأورد ابن عاشور هذه القصة في تفسيره الموسوم بالتحرير والتنوير، قال رحمه الله: روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على أهل فارس؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم، فكانت فارس يوم نزلت الم غلبت الروم قاهرين للروم، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله: أما إنهم سيغلبون، ونزلت هذه الآية، فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه. فسمى أبو بكر لهم ست سنين، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، فمضت ست السنين قبل أن يظهر الروم، فأخذ المشركون رهن أبي بكر. وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأبي بكر ألا أخفضت يا أبا بكر، ألا جعلته إلى دون العشر، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع. وعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين، وأسلم عند ذلك ناس كثير. وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أبي بن خلف، وأنهم جعلوا الرهان خمس قلائص، وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجل ستة أعوام غيروه فجعلوه تسعة أعوام وازدادوا في عدد القلائص، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبيء – صلى الله عليه وسلم – تعلق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن أيامئذ مشركا باقيا بمكة، وأنه لما أراد أبي بن خلف الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بكفيل فأعطاه كفيلا. ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبيء – صلى الله عليه وسلم -، فلما غلب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف.
فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عبر هذه الآيات المنزلة إليه بما سيكون في مستقبل الأيام، ولنا أن نتسائل إن لم يكن الله هو الذي أنزل إلى محمد نبيه هذه البشرى الواردة في هذا الكتاب المعجز، فمن الذي أخبره؟
بل لا يزال التساؤل قائم، ففي الآيات إخبار آخر يتعلق بعلم الجيولوجيا، فلقد وصفت الآيات المنزلة على محمد أرض المعركة التي ستدور بين الروم والفرس بأنها ستكون في أدني الأرض.
أدني الأرض لها معنيان، أدني بمعني أقرب، فتكون بمعنى أن المعركة ستدور في أقرب أرض لأرض المسلمين لأنهم هم المخاطبون بهذه الآيات.
وتحتمل أدني الأرض بمعني أخفض الأرض، وعند التأمل في الحدث نفسه، نجدها جاءت بالمعنيين معا، فالمعركة كانت عند منطقة البحر الميت، وهي أقرب الأرض إلى أرض العرب، وهذا قد يدركه العرب والناس من خلال خبراتهم بالطرق والأسفار.
ولكن العجيب أن هذه المنطقة التي دارت فيها المعركة هي أخفض منطقة على سطح الأرض على الإطلاق، والسؤال الآن كيف للعرب أن يعرفوا هذه الحقيقة الجيولوجية في ذاك الزمان؟
إن هذه المنطقة تنخفض عن مستوى سطح البحر ب 1312 قدما (نحو 400 متر) وهى أخفض نقطة سجلتها الأقمار الصناعية على اليابسة، كما ذكرت ذلك الموسوعة البريطانية.
فكيف عرف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة الجيولوجية في زمان لا يعرف عن علم الجيولوجيا شيئا؟ ومن الذي أخبره بهذه الحقيقة التاريخية التي كانت وقت نزول الآيات لا تزال في عالم الغيب؟ من أطلعه على هذا وأخبره به إن لم يكن الله تعالى هو الذي أخبره؟ ..