من علمه هذا المعنى الموجود في كتب بني إسرائيل؟
محمد بن عبدالله يتلو على أصحابه آية قال أنها أنزلت إليه من ربه و هي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]
فما هو معنى الروح في هذه الآية؟
يقول الطبري رحمه الله في معناها وهو من أوائل المفسرين: {وكَذلكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا} أي: وكما كنا نوحي في سائر رسلنا، كذلك أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، روحا من أمرنا ..
وقال الشنقيطي وهو من المفسرين المعاصرين في بيان معنى الروح في آية أخرى وهي قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ}. [النحل: 2]
أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة: أن المراد بها الوحي. لأن الوحي به حياة الأرواح، كما أن الغذاء به حياة الأجسام.
ويدل لهذا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} [الشورى: 52]، وقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 15 – 16].
ومما يدل على أن المراد بالروح الوحي إتيانه بعد قوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ} بقوله: {أَنْ أَنْذِرُواْ} [النحل: 2] لأن الإنذار إنما يكون بالوحي، بدليل قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْي} [يوسف: 45] الآية، وكذلك إتيانه بعد قوله: {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] بقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 15]. لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضاً.
وقوله: {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] أي ينزل الوحي على من اختاره وعلمه أهلاً لذلك؛ كما بينه تعالى بقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقوله: {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]، وقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 90].
وهذه الآيات وأمثالها رد على الكفار في قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
المتأمل في الآية التي تلاها محمد على أصحابه يعلم أن الروح لا يلقي إلا على الأنبياء، فالله لا يجعله لآحاد الناس، بل لمن يختارهم ويصطفيهم للنبوة والرسالة.
والآن نتسائل هل هذا المعني جديد في دين محمد؟ أم أن الأنبياء كانوا يعرفونه ويعرفه أيضا علماء بني إسرائيل؟
ولن أجيب على هذا السؤال من عند نفسي، ولا أريد من القاريء الكريم إجابة من عند نفسه، بل تعالوا لننظر في الكتاب المقدس نفسه، نرى بماذا يجيب.
تعالوا إلى سفر (إشعياء _ إصحاح 42) ماذا فيه؟
تتحدث الفقرة الأولى عن نبي اشتهر بأنه عبد الله ورسوله فهي تقول: ((هو ذا عبدي الذي أعضده. مختاري الذي سرت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم)). ونلاحظ في هذه الفقرة لفظ (مختاري) ونتسائل سؤالا سريعا من هو المختار؟ لو نظرنا بغير تعصب إلى كل الأنبياء من لدن نوح إلى عيسى عليه السلام، فلن نجد أحدا منهم وصف بأنه المختار، بل إن هذا الوصف لم يوصف به أحد من البشر من لدن آدم نفسه إلى الإن واستحق هذا اللقب غير محمد بن عبدالله الذي من إسماءه، محمد وأحمد والمصطفى، والمصطفى هو المختار، ولو قال أي مسلم من هو المختار؟ فلن تنصرف عقول المسلمين وقلوبهم إلا تجاه رجل واحد هو محمد بن عبدالله، ومع هذا فليس المقصود هنا الحديث عن إسماء النبي، وإنما المقصود الحديث عن روح الله.
وبالنظر في الكتاب المقدس، نرى أن عبارة: ((وضعت روحي عليه)) لا تقال إلا لنبي.
مثال ذلك: ((وكان روح الله على عزريا بن عوديد)) [2 أخ 15: 1].
وفي سفر العدد [11: 29]: ((يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء. إذا جعل الرب روحه عليهم))
والمعني: لأن ليس كل الشعب أنبياء، فالرب لم يجعل روحه عليهم، لأن الروح لا تكون إلا على الأنبياء، وهذا المعني نفسه تقره الرسالة المحمديه، وهو معنى مؤكد في القرآن، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله في سورة الشورى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا))، ولم يقال مثل هذا لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين، فالمعنى خاص بمحمد لأنه هو النبي لا كل المسلمين، تماما كما هو في التوراة، أن الله لم يجعل روحه عليهم لأنهم ليسوا أنبياء، وإنما الروح يجعلها الله للأنبياء فقط فهم الذين أوحي الله إليهم.
فهل لما قرأ محمد عليه الصلاة والسلام هذه السورة في قلب الصحراء، كان هو من علماء بني إسرائيل ليعرف ما في كتبهم؟ بالطبع لا؟
هل كان محمد يقرأ في كتب أهل الكتاب قبل النبوة، فعلم هذه الحقيقة أن الروح معناها الوحي الذي يلقيه الله على الأنبياء فقط، فجاء بهذه الآية من عند نفسه ليدعي بها النبوة؟
الجواب أنه لا يقرأ ولا يكتب بل هو أمي، فأني له بقراءة كتب أهل الكتاب ليعرف هذه المعاني؟
هل كان محمد يختلط بأحد من علماء بني إسرائيل يتعلم منه؟ وهل ترجمت كتب أهل الكتاب إلى العربية قبل زمان النبي أو في زمانه؟
الجواب: لا ولو كان هذا حقا لتمسك به أهل الكتاب، وبينوا سند شيوخه كما هو معلوم الآن عند علماء المسلمين، أن كل شيخ له شيخ سمع منه حتى ينتهي السند إلى صاحب القول، فالعلم يأخذه التلميذ عن شيخه؟ فمن هو شيخ محمد الذي أخذ عنه هذا العلم لو كان له معلم؟ لبين أعداءه ذلك بدليل يحترمون فيه عقولهم قبل عقل من يقدمون له الدليل، ولكنه الكذب لأنه لم يعلمه بشر، ولقد حاولوا الكذب وقالوا إنما يعلمه بشر، فرد عليهم ربه مدافعا عنه ورد شبهتهم عليهم فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، فجعلوا الذي يعلمه أعجمي لا ينطق بالعربية وها هو القرآن المنزل إلى محمد منزل بلسان عربي مبين، فمن إذا الذي علمه؟
الحق أنه لا شيخ له لأنه ليس تلميذ يتلقي العلم وإنما هو نبي أوحى الله إليه روحا من أمره كما أوحي إلى الأنبياء من قبله وعلمه ما لم يكن يعلم، وهذا من فضل الله عليه، وقد أنزل الله قرآنا يبين هذه الحقيقة قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]
وقال تعالى يبين فضله عليه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]
هذا هو شأن الله مع نبيه، يوحي إليه، كما أوحي إلى النبين من قبله، ويعلمه ما لم يكن، وكان فضله عليه عظيما.
ثم إن محمد لم يعرف عنه أنه تكلم بلسان غير اللسان العربي الفصيح، ولم تترجم التوراة والإنجيل إلى العربية إلا بعد موت محمد رسول الله بقرون عدة، فأني له معرفة شيء من التوراة أو الإنجيل إلا إذا كان الخبر من السماء.
واتسائل الآن، إن لم يكن الله الذي أوحي بهذا الكلام لمحمد في قلب الصحراء، فمن الذي أخبره بما في كتب أهل الكتاب من أن الوحي روح من الله يجعله لرسله فقط لا لأحد غيرهم؟ ومن الذي أنزل إليه هذه الآية {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، ليعلمه هذا المعنى؟
—————-
(1) مات رحمه الله عام 310 هجرية.
(2) مات رحمه الله عام 1393 هجرية …