ملكوت الله وأثره في الإيمان
هل ذقت يوما طعم أحاسيس حلوة في قلبك وأنت تشاهد فيلما تسجيليا عن السماء واتساعها؟
أو عن المجرات وكثرة أعددها؟
أوعن نجومها وجريها وسبحها؟
أو عن كواكبها وأفلاكها؟
أو عن الشهب وانقضاضها والنيازك واحتراقها؟
إن كنت وجدت مثل هذه الإحاسيس، فاحمد الله، لأن لك قلب يؤمن بوجود الله وعينا ترى قدرة الله، وعقلا تفكر في حكمة الله وتدبيره للكون، فهذه الأحاسيس تتولد عندما يوقن العبد أن للكون ربا خلقه، ودبر أمره، وأن كل شيء يجري في الكون بقدر ومقدار، له مبتدأ ومنتهى، فالأمر كله لله.
وهل تأملت يوما ماذا لو زادت سرعة الشمس قليلا في جريانها؟
أو اشتاقت الشمس يوما لأرضنا فاقتربت منها تريد وملاعبتها ملاطفتها، كيف يكون حالنا ومآل أرضنا؟
أو دب الشقاق بينهما فاقترقتا وتباعدتا كل تهجر أختها، كيف تكون الحياة؟ وهل سنبقي ساعتها على قيد الحياة؟
هل تأملت يوما ماذا يحدث لو اضطربت سرعات الشمس والقمر والأرض، كيف نحسب ساعتها عدد الأيام والسنين؟ وكيف نعرف التواريخ أو الأعمار؟
إن المتامل في العلاقات التي بين نجوم السماء وكواكبها ومجراتها ليعلم أن كل شيء خلق بحساب وبمقدار، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ولهذا فالكون متجانس والحياة صالحة لأهله، ونحن المسلمون نعلم هذه الحقيقة فلقد أخبرنا الله تعالى أنه سخر لنا ما في السماوات والأرض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20]
فالله عز وجل سخر لنا هذه الأشياء، وجعل الحكمة منها أن تكون مسخرة لنفع البشر في هذه الحياة الدنيا، وجعل الحكمة من وجود الإنسان أن يعبد الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالله قد بين لنا هذه الأمور.
والناس بين مؤمن بالله، بوجوده وبأن الله خلقه وأمره بعبادته، وهذا ينفعه التفكر والتأمل في خلق السماوات والأرض، وإذا رأي آية تدل على عظمة الله وقدرته وحكمته، آمن بالله، ولكن قد يخطيء الطريق الحق فيؤمن بالله وبوجوده وبأن الله أمره بعبادته ولكنه يخطيء في عبادة الله، حين لا يؤمن برسل الله، أو حين يكفر بالنبي الذي أرسله الله في آخر الزمان وقامت على بيان صدقه الادلة والبراهين.
المهم أن من يؤمن في العموم بأن للكون من خلقه ودبر أمره، إذا نظر في آيات الله الموجودة في الكون من خلال رؤيته لما في السماء أو في الأرض من حقائق فإنه يزيد يقينا في أن الله هو الخالق الذي أوجد هذا الكون لا إله غيره.
وعلى العكس من هذا نرى أن من لا يؤمن بوجود الله وسد منافذ المعرفة المؤدية إلى قلبه كالسمع والبصر وأبي أن يتفكر في هذا الكون وفي الآيات الكونية التي تملأ أرجاء السماء والأرض، فإنه لا يزداد إلا جحودا وإباء، يحجد وجود الله، ويأبي أن يسلم للحقيقة التي قامت على بيانها الأدلة والبراهين لدرجة أن المنصفين قالوا: إن في كل شيء في الكون إية تدل على أن الله هو الخالق الماجد. لكن لخبث هذه النفس تأبي أن تسلم للدلائل والبراهين في فجور سافر عن الفطرة التي تسلم للحق حين يأتيها، والعيب ليس في الحق ولكن العيب في النفس التي رأت الحق فلم تؤمن به.
ولقد نشرت عام 2013 في مجلة العلوم النفسية Psychological Science دراسة أجريت على شريحة من الأمريكين، أفادت أن مشاهدة الأفلام الوثائقية تزيد الإيمان عند مشاهديها. وبخاصة تلك الأفلام التي أعدت للحديث عن كوكب الأرض فلقد جعلتهم أكثر يقيناً بوجود قوة تتحكم في هذا الكون!
بل العجيب أن معظم الذين شاهدوا هذه الأفلام عادوا وطلبوا مشاهدة المزيد بعدما تولدت لديهم قوة إيمانية عميقة بوجود الله تعالى، أي أن مشاهدة الحقائق الكونية كانت سبباً في المزيد من الإيمان واليقين ..
هذه حقائق أكتشفت منذ بضع سنين، أي في عصرنا هذا الذي نحياه، فهل تعد هذه الدراسة اكتشفت شيئا جديدا؟
إن من يقرأ القرآن الذي أنزل على محمد ليعلم هذه الحقيقة، التي علمها محمد بن عبدالله ومن معه قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، فلقد علم محمد رسول الله هذه الحقيقة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]
جاء في بيان معنى الآية في التفسير الميسر الذي أعده نخبة من المهتمين بعلم التفسير ما يلي: وكما هدينا إبراهيم عليه السلام إلى الحق في أمر العبادة نُريه ما تحتوي عليه السموات والأرض من ملك عظيم، وقدرة باهرة، ليكون من الراسخين في الإيمان.
فالله يرى إبراهيم ما في السماوات والأرض من أمور عجيبة، قد لا يراها غيره، ليجعله الله من البالغين في الإيمان درجة عالية وذلك لأن اليقين من أعلى مراتب الإيمان.
بل الطريف أنه جاء في الدراسة لفتة مهمة، ربما لم يقم الباحثون بدراستها في حد ذاتها، وهي أن المؤمن يرغب في زيادة إيمانه، ويسأل عن السبل التي توصله إلى هذا المطلوب، فتجد العالم المؤمن الرباني يبحث ويقرأ ويدرس ويتعلم ليزداد إيمانا مع ازدياد علمه، ولقد أخبرنا محمد بن عبدالله بهذه الحقيقة حين قال: إثنان لا يشبعان طالب علم وطالب مال.
فطالب العلم لما يجده من علوم تزيد إيمانه يرغب في نيل المزيد.
والمؤمن عموما يسأل المزيد من الإيمان، ولقد بينت هذه الحقيقة آيات جاءت في القرآن، ذكرت عن بعض الأنبياء.
فها هو إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يريه كيف يحي الموتي، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]
انظر إلى الآية، ها هو إبراهيم يسأل الله أن يريه كيف يحي الموتى، فيقول الله تعالى وهو يرد عليه: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}؟ فيقول إبراهيم: {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
وفي الآية بيان آخر لما جاء في الدراسة وهو أن رؤية كيفية إحياء الموتي تؤدي إلى زيادة الإيمان، وهذا مما تعجز عن إدراكه العلوم التجريبية، أي أن رؤية قدرة الله في خلق الأشياء وتدبير أمرها، كما هو في خلق السماء والأرض يزيد الإيمان.
فأراه الله كيف أنه إذا ذبح الطير وقطعه أجزاء ووزعها على قمم الجبال فالله قادر على إحياءها من جديد، ففعل إبراهيم ثم دعاها إليه فجاءت الطيور تسعى إليه.
وها هو رجل يمر على قرية خاوية على عروشها، بقيت الديار ولكن فنت سكانها، فيتعجب في نفسه، ويتسائل كيف يحي الله تعالى هذه القرية بعد موتها، فيريه الله آية، أنه أماته مئة عام، ثم بعثه بعد موته، ومع هذه الحال مات حماره وصار عظاما، ولكن الطعام بقدرة الله بقي كما هو لم يفسد ولم يتغير طعمه ولا ريحه، كأنما قد صنع الآن، وكأن الزمان توقف بالنسبة للطعام، فلما رأي الرجل هذه الآيات تيقن أن الله قدير على كل شيء بما فيه إحياء الموتي، كما كانوا بعدما فنيت أجسامهم، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259]
وها هو نبي الله موسى يسأل الله أن ينظر إليه، قال تعالى فيما يحكيه عن موسى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]
فموسى عليه السلام يسأل أن ينظر إليه فيراه، فرد عليه الله تعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} والله قد حكم أن لا يراه احد إلا أهل الجنة حين يدخلون الجنة، فيزيدهم من فضله ورحمته وهذا المزيد هو أن يروا الله سبحانه وتعالى بعيني رأسهم، فإذا كانت الجنة ممتعة لأنها جميلة فالله خلقها وجعل فيها أجمل النساء وألذ الأطعمة وأبهج ما تراه العيون لجمالها وجعل فيها البناء من الذهب والفضة والأنهار حفتاها من اللؤلؤ، وغير ذلك مما يخطر على البال وما لا يخطر من أنواع وأالوان الجمال، فكيف يكون جمال من خلق الجمال؟ لا شك أجمل من أن ترى جمال الجنة هو أن ترى جمال خالقها الله سبحانه وتعالى، ولهذا فرؤية الله من أنعم نعيم لأهل الجنة وليست هذه النعمة ينالها أحد في الدنيا ولو كان نبيا، فقال الله لموسى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}
فلما تجلي ربه للجبل والجبل ليس مكلف بالعبادة ولا هو متوعد بدخول الجنة ولا النار تبعا لما يختاره من عبادة أو كفر كما هو الحال في الإنس والجن، ومع هذا لما تجلي الله للجبل الصلب، جعل الله الجبل دكا أي انهد الجبل مع قوته وصلابته، فما الذي يحدث للإنسان إن تجلي الله له في الدنيا ورآه ومعلوم أن الإنسان أضعف قوة وصلابة من الجبل، فلما رأي موسي هذا الأمر أي رأي شيئا في كون الله وهو انهيار الجبل وتصدعه من تجلي الله له، صعق موسي، فلما أفاق أعلن أنه أول المؤمنين بالله، أي أن رؤية هذه الحقيقة الكونية زادته إيمانا.
وها هو محمد بن عبدالله أكمل الأنبياء وخاتمهم وسيدهم وأكثرهم إيمانا ويقينا بالله، فلقد أخبرنا الله أنه أراه في رحلة الإسراء والمعراج من آيات الله الكبرى، وهو مع ذلك أعظم الناس إيمانا قال تعالى عنه يثبت أنه رأي من الآيات كما رأي غيره من الآيات كإبراهيم موسى، فقال تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]
فلقد أثبت الله أن ما رآه محمد في رحلة الإسراء والمعراج إنما هو من آيات الله الكبرى، وليسن مجرد آيات من آيات الله وكل آيات الله كبرى، فما بالك حين يختص الله من آياته آيات ويسميها آيات كبرى ويريها لمحمد بن عبدالله، إنك إن نظرت إلى أوصاف نبي آخر الزمان في التوراة والإنجيل لعلمت أن هذا النبي هو المستحق لأن يرى هذا النوع من الآيات، فإن ثبتت بالأدلة والبشارات أن هذا النبي هو محمد بن عبدالله فلماذا يستكثر أهل الكتاب هذه المنزلة أن تكون له، ولم يظهر حتى الآن نبي تؤازره الدلائل والبينات كما آزرت محمدا وشهدت على صدقه.
ولكن الجاد الكافر يأبي أن ينصاع للحق وأن يعترف به، فتراه يجحد الحقائق مع بيانها، ومهما رأى من الآيات والدلائل على قدرة الله وأنه الرب الخالق للكون والإله الواحد المستحق لأن يعبده الخلق.
وهذا ما أثبته القرآن الكريم قال تعالى عن هذا النوع الجاحد الكافر من الناس: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، هذا ما أثبته الكتاب المنزل على محمد بن عبدالله قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، فهل أثبتته التجارب والأبحاث في العلوم الإنسانية الآن؟ أم ما زالت متأخرة لم تصل بعد إلى ما أثبته القرآن المنزل على محمد بن عبدالله من قرون عديدة؟
وها نحن نصل إلى أقصى شيء في العلوم والإكتشافات، لنجدها مذكورة في جزء من آية، أو جزء من حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله حقا وصدقا، وتبقي في الآية أمور لتنبيء عن أشياء لم يكتشفها الناس بعد، أو قد يعجزون من الأساس عن إدراكها، لتبقي الحقيقة ناصعة أمام الجميع، أن القرآن كلام الله، يعجز البشر عن ملاحقته في كشف الحقائق العلمية ، ولبيقي إلى قيام الساعة برهان وحجة على أنه كلام الله، وأن محمدا ما علمه بشر.
وأتسائل الآن، إن لم يكن الكتاب المنزل على محمد في قلب الصجراء هو كتاب الله حقا، وأن محمد بن عبدالله هو رسول الله صدقا، فمن أخبره بهذا؟
أقول هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم