فقه النفس في آية إكمال الدين
فقه النفس في آية إكمال الدين – سورة المائدة (الآية 3)
مقدمة
الإسلام دين يخاطب الإنسان بكليّته، لا كجسد يبحث عن الغذاء فقط، ولا كعقل يطلب المعرفة فحسب، بل كـ نفس حيّة تجمع بين الغريزة والعقل والروح.
ومن أروع أمثلة هذا الخطاب الشامل، الآية الثالثة من سورة المائدة، التي تبدو لأول وهلة وكأنها جمعت أحكام الطعام مع إعلان إكمال الدين، ثم ختمتها برخصة المضطر، لكن عند التأمل، نجد أن هذه الآية ترسم بناءً نفسيًا وتربويًا متكاملًا، يبرز محاسن الإسلام في صورته الرحيمة والشاملة.
المحور الأول: كبح الشهوة وتنظيم الغريزة
“حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ…”
النفس تميل بطبعها إلى ما لذ وطاب أو ما اعتادت عليه، حتى لو كان ضارًّا أو مستقذرًا. فجاء التحريم ليعلّمها أن معيار الاختيار ليس الهوى ولا العادة، بل أمر الله.
هذا المنهج يجعل المسلم واعيًا بما يدخل جوفه، فيربط سلوكه اليومي بعقيدته، فتتحول شهوة الأكل من عادة غريزية إلى عبادة واعية، يبتغي بها وجه الله.
المحور الثاني: تحرير العقل من سلطة العرف الفاسد
“وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ… وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ”
الإنسان يتأثر بالمجتمع والعادات المتوارثة، وقد يخشى مخالفتها. فجاء القرآن ليحرر الإرادة من ضغط الجماعة، ويجعلها مرتبطة بالوحي لا بالعرف الفاسد.
إنه تحرير فكري وعقدي، يمنح المؤمن شجاعة التمرّد على الباطل، ويرسّخ هويته الإيمانية القائمة على الحق لا على التقاليد.
المحور الثالث: إشباع حاجة النفس للثبات واليقين
“الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…”
النفس البشرية تبحث عن الاستقرار المعرفي، وتقلق إذا شعرت أن منهج حياتها ناقص أو قابل للتغيير المستمر. فجاء هذا الإعلان الإلهي ليمنحها أعلى درجات الطمأنينة والثقة.
إنه خطاب يملأ القلب أمنًا، ويحرّر النفس من القلق الوجودي، ويعزّز انتماءها لدينها، لأنها تدرك أنها تسير على منهج كامل لا نقص فيه.
المحور الرابع: مراعاة ضعف النفس وفتح باب الرحمة
“فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ…”
مهما بلغ الإيمان من قوة، فالإنسان يظل عرضة للضعف والاضطرار. فجاءت الرخصة لتؤكد أن الشريعة ليست قيدًا جامدًا، بل رحمة مرنة تراعي ظروف الحياة.
هذا التوازن بين صرامة الحق ورحمة التطبيق يجعل النفس أكثر حبًّا للشريعة، وأبعد عن التمرّد أو النفور.
الخيط الجامع
هذه الآية ترسم منهج الإسلام في التعامل مع النفس:
ضبط الشهوة (تحريم المحرمات).
تحرير الفكر (رفض العادات الوثنية).
طمأنة القلب (إكمال الدين).
رحمة بالضعف (الرخصة للمضطر).
إنها صورة بديعة لمحاسن الإسلام، حيث يلتقي التشريع مع التهذيب النفسي، في دين يحكم الجسد والعقل والروح معًا.
📌 خاتمة
إن تأملنا في هذه الآية يكشف أن الإسلام ليس مجرد منظومة قوانين، بل هو منهج حياة يعرف طبيعة النفس ويهذبها، ويوازن بين متطلبات الجسد وحاجات الروح، وبين صرامة المبدأ ورحمة التطبيق. وهذا من أعظم محاسن الإسلام التي تدعو كل منصف للتأمل والاعتزاز.