سيهزم الجمع ويولون الدبر

يجهر بلال بن رباح بأعلى صوته: أحد أحد، إنها آهاته التي يتأوه بها، بعدما جروه على الرمال الملتهبة والحجارة لتلهب ظهره العري بحرها ونارها، تحت لهيب الشمس الحامية.
ويتعرض عمار بن ياسر لأصناف العذاب ويهدد بالقتل إن لم يسب حبيبه ورسوله المنقذ محمد بن عبدالله، وقد قتلوا بالفعل أبواه أمام عينه، فليس المشهد مشهدا سينمائيا بل هو واقع مؤلم ومر، يسطره التاريخ بمداد من الدماء.
ويعذب خباب بن الأرت بنوع ثان من أصناف العذاب، حتى إن شحم ظهره ليطفيء جمر النار.
ويعذب غيره وغيره، إنها الحقبة المكية التي تفننت فيها قريش وكفارها في تعذيب من آمن بمحمد رسول الله.
في هذه الحقبة من تاريخ الإسلام بمكةكانت الآيات والسور تتنزل تأمر الناس بتوحيد الله، وتبين لهم مآل الموحدين ومآل المشركين، وتقص عليهم أنباء الفريقين أهل الإيمان وأهل الكفران، وما كان أهل مكة يقابلون الآيات والدلائل إلا بالكفر والإعراض إلا القليل ممن انشرحت صدورهم للقرآن، فنفعهم هداه، أبصرت أعين بصائرهم نور القرآن فرأت جنة التوحيد رحبة الأرجاء ورأو وضوحها أشد من وضوح الشمس في رابعة النهار، فيدعوهم إلى إله واحد بما يناسب فطرهم لا إلى إله واحد وهو ثلاثة كما هو عند النصارى، فكيف يكون الواحد في نفسه ثلاثة وهو أمر يخالف الفطرة إإله في ذاته هو ثلاثة فلم لم يخلق الناس بفطرة تقبل أن يكون الواحد ثلاثة؟ لماذا يصعب عليهم أمر الإيمان به؟
لقد جاءهم محمد يخبر عن إله لا ولد له ولا زوجه وليس له مثيل من خلقه؟ وإلا فما يمزه عن الناس الذين لهم زوجة وولد، ألا يدل ذلك على عجز هذا الإله معاذ الله وينتقص من شأنه، فالرجل يحتاج إلى الزوجة لفقره للإنس بها، ولفقره لتلد له، ولد يستند عليه عند إنحناء ظهره وضعف قوته، فلماذا يختار الإله أن يكون مثل البشر، وهو قادر على أن يكون غني عن البشر؟
لقد جاءهم محمد بدين من إله له أسماء حسنى وصفات على، ليس له مثيل ولا يقبل أن يكون له مثييل، بل يستنكف أن يشبهه أحد من خلقه بأحد من خلقه، فهو إله على في ذاته على في شأنه، على على خلقه، لا يغار من خلقه ولا يحقد عليهم ولا ينزل من عرشه ليصارعهم، إله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
كان كفار مكة ومشركوها يرون الآيات على صدق محمد الصادق فما يزدادون معها إلا تكذيبا، ويسمعون آيات الله تتلى عليهم، فما يزدادون إلا إعراضا، ويقولون في أنفسهم إن كانت الأخبار التي يقولها محمد في حق الأمم السالفة حق، وأن الله أهلكهم لأنهم كذبوا الرسل، أوليس الله اختار قريشا ليكونوا سدنة البيت والقائمون على شئونه وعلى رفادته وشئون الحجيج زوار بيت الله الحرام، فكيف يهلكهم الله وهم أهل حرمه وخدام بيته؟

فعاتبهم الله وقال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43]: أي هل كفاركم خير من أولئكم الكفار الذين أهلكهم الله من قبل؟ فلا يهلككم كما أهلكم لكونهم خيرا منهم، وكيف تكونون خيرا منهم وكل منكم قد كذب الرسول المبعوث إليه، أم لكم براءة في الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل والزبور تنبيء أن الله لن يناكم بسوء مع كفركم.
والحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك فهم ليسوا بخير من السابقين بل شر منهم، إذ السابقون كذبوا أنبياءهم وهؤلاء كذبوا سيد الأنبياء، وفي ذات الوقت ليس لهم لهم براءة في الكتب المنزلة.
ولكن هؤلاء يقول نحن جماعة أمرنا واحد متحدون لا ننهزم، وقال الله تعالى يبين كلامهم هذا بقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44]، أي نحن جماعة منتصرة لن نغلب.
ولكن لمحمد قول آخر يرى فيه أنهم سيغلبون، وسيفرون نحو الهزيمة، يعطوا أدبارهم لعدوهم خوفا منه فزعا وفرارا، رأيه هذا استمده من القرآن المنزل إليه، يقول أن الله أوحي إليه آيه يقول فيها {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]
ليس هذا فقط بل هو يؤمن أنهم أي الموحدون هم الذين سيوليهم الكفار أدبارهم حين يفرون منهزمين أمام محمد وجنده ومن معه من جند الملائكة الذين حاربوا معه وقد حدث هذا في موقعة بدر الشهيرة التي وقعت في العام الثاني للهجرة.
يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه كما روى في مسند الإمام أحمد عنه أنه قال: لما نزلت {سيهزم الجمع} جعلت أقول: أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}.
فكان محمد بن عبدالله، يعلم أن جمع كفار مكة سيهزمون أمامه وأمام جنده، في حين أن الآية نزلت ولم يكن له جند بعد ولا جيش، بل له أتباع مضطهدون في مكة يعذبون بكل نوع إستطاع الكفار تعذيبهم به، ومع هذا يؤمن أن الله ناصره ومؤيده ومن معه بجند من الملائكة على من حاربه وعاداه.

كان ذلك في العام الثاني من الهجرة، عندما خرج الرسول يريد عير قريش ليأخذ بعضا من حقوقه وحقوق أتباعه التي سلبتهم قريش إياها لما هاجروا، حتى أنهم كانوا يقفون لمن أراد الخروج من مكة ليخرجوه مجردا من ماله، بل ولم يقف التعنت عند هذا الحد بل قد منعوا البعض من أن يأخذ ولده معه، وأجبروه إن أراد الخروج أن يخرج وحده ليترك المال والولد أيضا والزوجة.
يأتي العام الثاني ويخرج النبي في ثلاثمائة رجل ليس معهم إلا فارسان يريدون أن يسترودا شيئا مما استلبيته منهم قريش في مكة، فيقدر الله لهم مواجهة جيش قريش في ألف رجل كلهم خرجوا من دارهم لا يريدون إلا الحرب والقتال قد أخذوا أهبتهم وأستعدوا بالسلاح والزاد والعتاد.

ويلتحم الجيشان جيش الموحدين وعدده أقل من ثلث جيش كفار مكة الذين جعلوا على رأسهم أشراف مكة وسادتها، ويحضر الشيطان المشهد يقوى المشركين ويعدهم النصر والمؤازة، فيرسل الله ملائكتة ليولي الشيطان مدبرا يقول ما حكاه عنه الله في القرآن الكريم قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} (الأنفال 47: 51)
فها هو الشيطان ينكص على عقبيه، ويفر من المعركة لما رأي جبريل والملائكة معه تنزل لتحارب مع المسلمين وتنصرهم، وتنقلب الموازين وتصير الغلبة للفئة القليلة فئة محمد ومن معه، وتخيب طنون المنافقين في المدينة وينتصر الموحدون على المشركين، في وقت ظن فيه الكفار من أهل مكة والمنافقون من أهل المدينة أن هذه المواجهة الدامية هي ضربة قاضية للإسلام ولمحمد وجنده، لكنهم خابوا فلم يقدروا الأمور قدرها، ظنوا أن محمدا يقاتل بجند من الأرض، ولكن الحقيقة أن محمد يحارب بجند من الأرض والسماء طالما من معه من جند الأرض متمسكون بوحي السماء لا يخالفوه، فإن خالفوه امتنع جند السماء، وصارت المعركة بين جند محمد الأرضين وجند الكافرين، كما حدث في أحد حين خالفوا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يبين لماذا يغلب الكفار اليوم أتباع محمد، لأنهم باختصار هجروا بعض وحي السماء، ومتى عادوا إليه عاد النصر إليهم واستحكم التمكين لهم في الأرض كما كان من قبل.
لقد كان الرجل من المسلمين في بدر يقصد إلى الرجل من الكفار فيرى هامته قد طارت بضربة سيف لم يرى ضاربها. يروي بعض الصحابة أنهم رأو رجلين بيض يقاتلان عن يمين رسول الله وشماله، ورأي رجل سحابة في السماء وإذا بصوت فيها يقول أقدم يا حيزوم، وما حيزوم إلا اسم فرس الملك النازل من السماء، فالملك يحث فرسه على الإنطلاق لنصرة محمد رسول الله.
وها هو جمع مكة يهزم ويولي الدبر ويجمع النبي السادة الشرفاء الذين حكموا مكة وكانت لهم الكلمة فيها دون غيرهم يخططون ويشحذون السلاح ليستأصلوا شأفة محمد والموحدين معه، فيجعل الله مصير أولئك السادة الأشراف بئر في بدر يدفنون فيه دفنا جماعيا.
ويتكلم العرب بنتيجة المعركة التي دارت بين نفر خرجوا على غير استعداد لحرب وبين جيش يفوقهم ثلاث مرات في العدد، قد سلح أشد تسليح ومون أكثر تموين.

وهنا نسأل كيف كان يكون موقف محمد وهو يتلو على أصحابه {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، ثم تمر الأيام ولا ينتصر ولا يحصل هذا الموعود، كيف كان يكون حاله؟
وما الذي يدفع محمد لقول هذا القرآن وهو بعد في مكة، إن لم يكن وحي من الله إليه؟
ثم هل تحقق الموعود أم لم يتحقق؟
بلا شك تحقق، فمن الذي أخبره بهذا الموعود الغيبي إن لم يكن الله أوحاه إليه؟
هل يستطيع بشر أن يعد هذا الوعد الغيبي المتعلق بقتال وجيشين ليست احدهما ينبيء الواقع عن إستحالة وجوده، ويئد كل خاطرة في الخيال حول وجوده ولو في عالم الأحلام، وأقصد به جيش المسلمين والمعذبين في مكة المضطهدون من سادتها وسدنة آلهتها الحجرية المزعومة.
وقت نزول الآية لم يكن للمسلمين جيش ولا حتى بعض الجند لحراسة محمد، فمن الذي أخبره بهذه الحقيقة التي سطرتها كتب التاريخ، إن لم يكن الموحي إليه بها هو الله؟

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *