“حديث النية: مظهر من محاسن الإسلام في ترسيخ الإخلاص وتقدير القلوب”
عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
📚 التخريج:
أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (حديث رقم: 1) في كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ.
وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه (حديث رقم: 1907).
رواه أيضًا الإمام الترمذي (حديث رقم: 1647)، والنسائي (حديث رقم: 75)، وأبو داود (حديث رقم: 2201).
📝 شرح الحديث:
“إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ”:
يؤكد النبي ﷺ أن صحة وقبول الأعمال متوقفة على النية.
الأعمال مجردة عن النية لا قيمة لها في ميزان الآخرة.
“وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”:
الإنسان يُجازى على حسب نيته، سواء أكانت صالحة أم فاسدة.
النية قد ترفع العمل العادي إلى عبادة، وقد تفسد العبادة وتبطلها.
“فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ”:
من هاجر طلبًا لرضا الله ورسوله، فسيُجزى بنيته.
الهجرة هنا تمثل مثالًا عامًا للأعمال التي يُقصد بها وجه الله.
“وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا”:
من كانت نيته دنيوية بحتة، فسيحصل على ما نواه في الدنيا، لكن لن يكون له أجر في الآخرة.
الملحوظة الجوهرية:
العمل الواحد قد يتحول إلى عبادة أو معصية بحسب النية.
النية تحول المباحات إلى قربات وطاعات.
🌟 دلالة الحديث على محاسن الإسلام:
1. إصلاح القلب والبنية الداخلية للإنسان:
الإسلام لا يكتفي بإصلاح ظاهر الإنسان، بل يهتم أولًا بالقلب والنوايا.
النية هي روح العمل، وإذا فسدت النية فسد العمل.
يربي الإسلام الإنسان على الإخلاص في كل عمل.
2. العدل الإلهي:
يجازي الله تعالى الإنسان على قدر نيته، فلا يُظلم أحد.
قد يتساوى عملان في الظاهر لكن يختلفان في الأجر بسبب اختلاف النية.
3. تحويل العادات إلى عبادات:
يمكن تحويل الأنشطة اليومية العادية (الأكل، الشرب، العمل) إلى عبادة بالنية الصالحة.
قال النبي ﷺ: “إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك.”
4. تعزيز الإخلاص:
الإخلاص هو أساس قبول العمل عند الله.
يُعزز الإسلام الرقابة الذاتية؛ لأن النية أمر خفي لا يعلمه إلا الله.
5. تصحيح مسار الأهداف:
يعلّم الإسلام الإنسان أن يجعل هدفه الأسمى رضا الله تعالى.
يوجه المسلم ليكون له نية سامية وراء كل عمل يقوم به.
6. الاهتمام بالنية يحفظ المجتمع من الرياء والنفاق:
الرياء نية سيئة، والعمل إذا شابه رياء أصبح مردودًا على صاحبه.
الإسلام يبني مجتمعات صادقة نقية من الرياء والازدواجية.
7. تقدير الأعمال الصغيرة:
حتى الأعمال الصغيرة يُؤجر الإنسان عليها إذا صحت النية.
“تبسمك في وجه أخيك صدقة”.
8. المساواة بين البشر:
لا فرق بين غني وفقير، أو قوي وضعيف؛ لأن معيار التفاضل هو النية والتقوى.
قال الله تعالى: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” [الحجرات: 13].
9. استمرارية الأجر:
أجر النية قد يستمر حتى لو لم يتمكن الإنسان من إتمام العمل لعذر.
قال النبي ﷺ: “إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا.”
📖 مثال تطبيقي:
رجلان يبنيان مسجدًا:
الأول: نواه خالصة لله.
الثاني: يريد الشهرة والرياء.
كلاهما أنفق المال وبذل الجهد، لكن الأول يؤجر، والثاني لا أجر له.
🕌 الخلاصة:
هذا الحديث يمثل قاعدة أساسية في الإسلام: “صلاح النية هو أساس صلاح العمل.”
يبرز الحديث البعد الروحي العميق للإسلام.
يؤكد الحديث أن الله تعالى ينظر إلى ما في القلوب قبل النظر إلى الأفعال الظاهرة.
يوجه الحديث كل مسلم لجعل نيته خالصة لله تعالى، مما يجعله إنسانًا منتجًا وفاعلًا في الدنيا، ومقبولًا عند الله في الآخرة.
📝 قال الإمام الشافعي:
“هذا الحديث يدخل في سبعين بابًا من أبواب الفقه، وهو ثلث العلم.”
*🌺 اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، وارزقنا النية الصالحة في كل قول وعمل. آمين.