العبرة في خلق اللبن من بين الدم والفرث

قال تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) [النحل: 66].
تتحدث الآية الكريمة عن بعض نعمة الله على الناس، فلقد وردت الآية في سورة النحل ضمن مجموعة آيات تعرف العباد بنعم الله عليهم، وتدعوهم إلى الإيمان به سبحانه وتعالى.
قال أبو بكر الجزائري رحمه الله في تفسير الآية: {نسقيكم مما في بطونه}، أي: بطون المذكور من الأنعام. {من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين}، فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي لا يقادر قدرها. . اللبن يقع بين الفرث والدم، فينتقل الدم إلى الكبد فتوزعه على العروق لبقاء حياة الحيوان، واللبن يساق إلى الضرع، والفرث يبقى أسفل الكرش، ويخرج اللبن خالصاً من شائبة الدم وشائبة الفرث، فلا يرى ذلك في لون اللبن، ولا يشم في رائحته، ولا يوجد في طعامه، بدليل أنه سائغ للشاربين، فلا يغص به شارب ولا يشرق به، حقاً إنها عبرة من أجل العبر؛ تنقل صاحبها إلى نور العلم والمعرفة بالله في جلاله وكماله، فتورثه محبة الله وتدفعه إلى طاعته والتقرب إليه.
هذه الحقيقة العلمية التي توصل إليها العلم حديثا، بينت أن الأنعام وعلى سبيل المثال البقرة، تمر عملية هضمها للطعام بمراحل معقدة جدا عبر أربعة معدات، حتى يخرج اللبن من الضرع من بين الدم والفرث وهو: (العشب الممضوغ في بطون البقر)، ليخرج في النهاية لبن مستساغ الطعم، تشتهيه النفس، فسبحان من أخرجه من بينهما، وكل منهما تأباه النفس ولا تستسيغه.
هذه الحقيقة العلمية التي عرفها أهل قرننا هذا، ساقها القرآن في باب المنة الربانية على الناس، ليتلوها محمد بن عبدالله على أصحابه في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، فإن لم يكن المخبر له هو الله فمن أخبره دون غيره من الناس؟ وما هي حاجة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخبر الناس بأمر كهذا في وقت لا يعلمون عنه شيئا، بل ولم يسألوه عنه؟

{وَازْدَادُوا تِسْعًا}

هذا جزء من آية أجاب الله فيه على سؤال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن فتية آمنوا في سالف الدهر، وذلك عندما سأل أهل مكة الأميون اليهود أصادق محمد؟ فدلهم اليهود على أن يتبينوا صدقه بأن يسألوه عن أمور ثلاثة، عن ذي القرنين وعن الخضر وعن فتية آمنوا في سالف الدهر، ماذا كان من أمرهم، فهذه الأمور الثلاثة من الغيب. و معلوم عند القاصي والداني أن محمدا الذي ولد بينهم ونشأ معهم لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ومن ثم فلم يطلع على كتب الأقدمين، فمستحيل أن يعلمها إلا إذا كان من الأنبياء.
ولقد سألوه، وأجابهم محمد بعد شهر كامل انقطع عنه الوحي فيه، لقد قال لهم محمد ساعة سألوه سأخبركم غدا، على اعتبار أن الوحي سيأتيه يخبره بجواب ما سألوه عنه، ولكن لم يأته الوحي، لماذا؟ لأنه نسي أن يقول (إن شاء الله) لما قال لهم سأخبركم غدا.
سبحان الله الوحي ينقطع عنه شهرا لأنه نسي أن يقول إن شاء الله، فكل شيء في الكون بمشيئة الله، ولا ينبغي له أن يجزم بشيء أنه حادث في الغد إلا بعد أن يعلقه على مشيئة الله فيقول إن شاء الله.
ما حدث لمحمد بن عبدالله هو نفسه ما حدث لنبي الله سليمان، لما قال: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ ” قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ ” , الحديث صحيح أخرجه البخارى برقم: 5242
هذه المشابهة في قصة رسول الله محمد ونبي الله سليمان، تبين أن الله لا يحابي أحدا من خلقه، وأن كل ما في السماوات والأرض يرجع لمشيئة الله.
لما جاء الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد انقطاعه ذاك الشهر، جاءه بالجواب وجاءه ببيان ضرورة إرجاع الأمور لمشيئة الله، وأنه إذا أراد أن يفعل شيئا في الغد فلابد أن يقول: إن شاء الله، قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} [الكهف: 23 – 24]
صناعة ربانية لأنبياء الله.
نري الآيات المنزلة تناولت الجواب على المسائل الثلاث بالترتيب، بعد شغف قلب النبي بانتظاره، يأتيه التوجيه إلى ضرورة تقديم المشيئة عند الحديث عن عمل شيء في المستقبل، ليلقي هذا التوجيه قلبا مطمئنا، متجردا من أي مشاغل إلا الإستماع لتوجيه رب العالمين، وهذا تسلسل منطقي وتوجيه تربوي، تتعلم منه البشرية إلى قيام الساعة.
فالقرآن كتاب منطقي في أحاديثه وأحداثه، لا يوضع حرف إلا في أفضل موضع، فما بالك بكلماته وقصصه وأوامره ونواهيه وأخباره، كلها جاءت في مواضع غاية في الإبداع، يعجز البشر عن الإتيان بمثلها.، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]
ومن الافت للنظر وهذا حال القرآن كله المنطقية في عرض الأحداث، أن ترى قصة الفتية الذين آمنوا بربهم، والتي تعرف بقصة أصحاب الكهف، قد جاءت في عدة آيات، وتحدثت عن أخبار الفتية وما كان من أمرهم، ثم تعرضت لفض الجدل بين الناس في مدة لبثهم في الكهف وهم نيام.
وإليكم الآيات الكريمات التي عرضت قصتهم , قال تعالى:
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)} [الكهف: 9 – 25]

إن المتأمل في الآيات يري فيها، كيف أن الله أجابهم عن مدة لبثهم في الكهف، وهم ما سألوه عن مدة لبثهم، بل سألوه عن ما كان من أمرهم، فأتاهم القرآن بالجواب الكامل عما سألوه وعما قد يخطر في بالهم ولم يسألوه، فقال تعالى {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25]، أي 309 سنة مكثوها في الكهف نيام، وفي الآيات أكثر من مسألة تبين إعجاز القرآن، منها وليس كلها ماذكره، البعض من أن قول الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} هذا إذا نظرنا إلى مدة لبثهم في الكهف بالتقويم الشمسي، أما إذا نظرنا إليه بالتقويم القمري لرأيناه أزيد بتسع سنين، ليكون قول الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} يشمل التقومين الشمسي والقمري، وهذه حقائق حسابيه، فكل 300 عام بالتقويم الشمسي يكون الهجري قد سبقه بتسع سنين لأن الشهر القمري أقل من الشهر الشمسي، فيحدث هذا التفاوت في العد لتتولد كل 300 سنة شمسية 9 سنوات قمرية زائدة.
فمن أخبر محمد بن عبدالله بهذه الحقائق الحسابية، والتي لم يعرفها أهل زمانه، ثم كيف عرف أساسا هذه القصة التي جزم اليهود لأهل مكة أنه إن أجابهم عليه فهو نبي.
هل انقضت عجائب الكتاب المنزل على محمد في هذه القصة عند ما ذكرت؟ كلا لم تنقضي بل إني لم أذكر بعض وجوه هذه العجائب، لكن لفت نظري أن بعض المهتمين بعجائب القرآن من حيث علم العد والحساب والأرقام، أن بعضهم تتبع كلمات القصة وعدها من أولها إلى الكلمة التي جاء فيها قول الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} ليجد أن كلمة (تِسْعًا) التي تتحدث عن مدة لبثهم في الكهف جاءت في العد من أول كلمة في قصتهم إلى أن وردت كلمة (تِسْعًا) عند الرقم 309.
فبدأ العد كالآتي:
أَمْ = 1
حَسِبْتَ =2
أَنَّ = 3
أَصْحَابَ = 4
الْكَهْفِ = 5
وَالرَّقِيمِ = 6
كَانُوا = 7
مِنْ = 8
آيَاتِنَا = 9
عَجَبًا = 10
وهكذا حتى تنتهي في عد كلمات القصة إلى كلمة: (تِسْعًا) لتجدها = 309
أي انتهى عدد كلمات القصة عند رقم 309 وهو نفسه الرقم الذي انتهت إليه مدة لبثهم في الكهف وهو 309 سنة، لتبقي حقيقة مؤكدة أن الذي أنامهم في الكهف 309 سنة هو نفسه الذي حكي قصتهم لمحمد بن عبد الله، والذين ينكرون نبوة محمد بن عبدالله فليخبروني من الذي أخبره بهذه القصة في قلب الصحراء، وقصه عليه بهذه الإعجاز في العدد والبيان؟

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *